كان العرب على دين التوحيد دين أبيهم إبراهيم عليه السلام ، واستمروا على ذلك إلى ما قبل البعثة بأربعمائة سنة حيث ظهر فيهم رئيس مسموع الكلمة مطاع لا يخالَف ، فغير دينهم ، ذلك هو عمرو بن عامر الخزاعي .
ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قُصْبَهُ في النار ، كان أول من سيب السوائب ) (1) ، وفي صحيح البخاري أيضاً عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً ، ورأيت عمراً يجر قُصْبَهُ ، وهو أول من سيب السوائب ) . (2)
فعمرو هذا غيّر دين العرب بدعوتهم لعبادة الأصنام ، وباستحداث بدع في دين الله تعالى ، أحلّ فيها وحرّم بهواه ، ومن ذلك ما ذكره الله في كتابه : ( ما جعل الله من بحيرةٍ ولا سائِبةٍ ولا وصيلةٍ ولا حامٍ ولكنَّ الَّذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ) [ المائدة : 103 ] . (3)
وتختلف الروايات في الكيفية التي نشر عمرو بها الأصنام في الجزيرة العربية ، فمن قائل إنّ عمراً كان له رئيٌ من الجن هو الذي دله على الأصنام التي كانت مدفونة منذ عهد نوح ، وكان قوم نوح يعبدونها ، فاستخرجها عمرو ، ووزعها في العرب ، وقيل : إنه جاء بالأصنام من بلاد الشام ، عندما رآهم يعبدونها ، فطلب منهم صنماً ، فأعطوه واحداً نصبه بمكة (4) .
والسبب في أن العرب تابعت عمرو بن لحي أنه كان ذا مكانة فيهم ، فقد كان سيد خزاعة في حال غلبتها على مكة وعلى البيت بعد أن نفت قبيلة جرهم من مكة ، وكانت العرب قد جعلته رباً ، لا يبتدع بدعة إلا اتخذوها شرعة ، لأنه كان يطعم الناس ويكسوهم في الموسم ، فربما نحر في الموسم عشرة آلاف بدنة ، وكسا عشرة آلاف حلة .
ويقال : إن عمراً هذا هو الذي دعا الناس إلى عبادة اللات ، وكان رجلاً يلت السويق للحاج بالطائف على صخرة هناك ، فلما مات زعم عمرو بن لحي أنه لم يمت ، وأنه دخل في الصخرة التي يلت عليها ، وأمرهم بعبادتها .ومما يذكر عنه أيضاً أنه هو الذي غير التلبية التي كانت تعلن التوحيد لله وحده ، فقد كانت التلبية من عهد إبراهيم عليه السلام ( لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك ) واستمر الحال حتى كان عمرو بن عامر ، فبينما هو يطوف بالكعبة يلبي تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه ، فقال : ( لبيك لا شريك لك ) ، فقال الشيخ : إلا شريكاً هو لك ، فأنكر هذا عمرو ، فقال : ما هذا ؟ فقال الشيخ : قل تملكه وما ملك ، فإنه لا بأس بهذا ، فقالها عمرو ، فدانت بها العرب .
بداية الانحراف :
ويذكر لنا ابن إسحاق كيف كانت بداية الانحراف عند العرب من نسل إسماعيل عليه السلام في عبادتهم الأحجار ، فقد كان (( أول أمرهم أنهم كانوا يعظمون الحرم ، فلا يرتحلون منه حتى كثروا وضاق بهم ، فأخذوا يرتحلون عنه طالبين السعة والفسح في البلاد ، فكان لا يظعن ظاعن منهم عن الحرم إلى غيره إلا حمل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً له ، فحيث ما نزلوا وضعوه ، فطافوا به كطوافهم بالكعبة ، ثم أدى بهم ذلك إلى عبادة هذه الأحجار ، ثم كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة )) (5) .
وانظر إلى ما صار إليه أمرهم وحالهم : عن أبي رجاء العطاردي قال : " كنا نعبد الحجر في الجاهلية ، فإذا وجدنا حجراً أحسن منه نلقي ذلك ونأخذه ، فإذا لم نجد حجراً جمعنا حثية من تراب ، ثم جئنا بغنم فحلبنا عليه ثم طفنا به " .
ومن عجائب أمر الجاهلية أن الرجل منهم كان إذا سافر حمل معه أربعة أحجار ، ثلاثة لقدره والرابع يعبده .
أصنام العرب :
واتخذوا الأصنام والأوثان ، قال هشام بن محمد السائب الكلبي : " وكان من أقدم أصنامهم (مناة) ، وكان منصوباً على ساحل البحر الأحمر من ناحية (المشلل) بقديد بين مكة والمدينة ، وكانت العرب جميعاً تعظمه ، وكانت الأوس والخزرج ومن ينزل المدينة ومكة وما قارب من المواضع يعظمونه ويذبحون له ، ويهدون له ، ولم يكن أحد أشد إعظاماً له من الأوس والخزرج ، وبلغ من تعظيم الأوس ومن جاورهم من عرب يثرب له أنهم كانوا يحجون ، فيقفون مع الناس المواقف كلها ، ولا يحلقون رؤوسهم ، فإذا نفروا أتوه فحلقوا عنده رؤوسهم ، وأقاموا عنده لا يرون لحجمهم تماماً إلا بذلك .
وكانت (مناة) لهذيل وخزاعة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً عام الفتح فهدمها ، ثم اتخذوا (اللات) بالطائف وهي أحدث من مناة ، وكانت صخرة مربعة ، وكانت سدنتها من ثقيف ، وكانوا قد بنوا عليها ، وكانت قريش وجميع العرب يعظمونها ، وبها كانت تسمى زيد اللات ، وتيم اللات ، وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم ، فم تزل كذلك حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة ابن شعبة ، وأبا سفيان بن حرب لما أسلمت ثقيف ، فهدماها وحرقاها بالنار .
غير أن ابن جرير يروي في تفسيره عن مجاهد في قوله تعالى : ( أَفَرَأَيْتُمُ الَّلات والعُزَّى ) [ النجم : 19 ] قال : كان اللات يلت السويق للحاج ، فمات فعكفوا على قبره ، وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس : كان يلتّ السويق للحاج . رواه البخاري بنحوه .
ثم اتخذوا (العزى) وهي أحدث من اللات ، اتخذها ظالم بن سعد بوادي نخلة فوق ذات عرق ، وبنوا عليها بيتاً ، فكانوا يسمعون منها الصوت ، قال الكلبي فيما يرويه عن ابن عباس قال : كانت للعزى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة .
فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد فقال : ائت بطن نخلة ، فإنك ستجد ثلاث سمرات ، فاعضد الأولى ، فأتاها فعضدها ، فلما جاء إليه قال : هل رأيت شيئاً ؟ قال : لا . قال : فاعضد الثانية ، فعضدها ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال : هل رأيت شيئاً ؟ قال لا ، قال : فاعضد الثالثة ، فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها واضعة يديها على عاتقها تضرب بأنيابها وخلفها سادنها ، فقال خالد :
كفرانك لا سبحانك ، إني رأيت الله قد أهانك .
ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حممة ، ثم عضد الشجرة ، وقتل السادن ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : ( تلك العزى ، ولا عزى بعدها للعرب ) . وكانت العزى لأهل مكة في موضع قريب من عرفات ، وكانت شجرة يذبحون عندها ويدعون .
وقال الكلبي في كتابه ( الأصنام ) : " وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها ، وأعظمها عندهم (هبل) ، وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على صورة الإنسان ، وكانوا إذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفراً أتوه ، فاستقسموا عنده بالقداح .
ومن أصنامهم إساف ونائلة ، ويروي بعض الرواة أن رجلاً وامرأة زنيا في البيت الحرام ، فمسخهما الله حجرين ، ووضعتهما قريش عند الكعبة ليتعظ بهما الناس ، فلما طال مكثهما وعبدت الأصنام عبدا معها .
ولما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنماً ، فجعل يطعن بقوسه في وجوهها وعيونها ويقول : ( جاء الحقُّ وزهق الباطل إنَّ الباطل كان زهوقاً ) [ الإسراء : 81 ] ، ( جاء الحقُّ وما يُبدئُ الباطل وما يُعيد ) [ سبأ:49] وهي تتساقط على رؤوسها ، ثم أمر بها فأخرجت من المسجد وحرقت . أخرجاه في الصحيحين عن ابن مسعود بنحوه ولم يذكرا " وهي تتساقط ... إلخ " وعندهما يطعنها بعود كان في يده .
وقد انتشرت عبادة الأصنام حتى إنه كان لكل دار في مكة صنم يعبده أهلها ، فإذا أراد أحدهم السفر فكان أول ما يصنع في منزله أن يتمسح به ، وإذا قدم من سفر كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به .
قال ابن إسحاق الكلبي : " وكان ( ذو الخلصة ) لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان ببلادهم من العرب ، وكان مَرْوَةً بيضاء منقوشاً عليها كهيئة التاج ، وكان له بيت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجرير بن عبد الله البجلي ألا تكفيني ذا الخلصة؟ ) فسار إليه بأحمس ، فقاتلته خثعم وباهلة ، فظفر بهم ، وهدم بيت ذي الخلصة وأضرم فيه النار " .
وفي البخاري ومسلم عن جرير بن عبد الله قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ألا تريحني من ذي الخَلصَةَ ) ، وكان بيتاً في خثعم يسمى الكعبة اليمانية ، فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس إلى ذي الخلصة ، وكانوا أصحاب خيل ، فقلت : يا رسول الله ، إني لا أثبت على الخيل ، فضرب بيده في صدري حتى رأيت أثر أصابعه في صدري وقال : ( اللهم ثبته واجعله هادياً مهدياً ) ، فانطلق إليها فكسرها .
والأصنام التي كانت منتشرة في الجاهلية أكثر من هذا الذي ذكرناه .
ظلمة دامسة عند البعثة :
ولم يكن قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم من بقايا النور السماوي الذي جاءت به الأنبياء إلا أضواء خافتة لا تكفي للهداية والاستقامة على المنهج الرباني ، لضياع ذلك المنهج واختلاطه بذلك الباطل الكثير ، وفي الحديث : ( إن الله نظر – قبيل البعثة – إلى أهل الأرض ، فمقتهم عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب ) .
وقد حفظت لنا النصوص التاريخية أن أربعة من عقلاء قريش اعتزلوا قومهم في أحد أعياد قريش عند وثن من الأوثان ، وهم ورقة بن نوفل ، وعبيد الله بن جحش ، وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى ، وزيد بن عمرو بن نفيل .
فقال بعضهم لبعض : تعلمون والله ما قومكم على شيء ، ولقد أخطؤوا دين أبيهم إبراهيم ، ما حجر نطيف به ، لا يسمع ولا يبصر ، ولا يضر ولا ينفع ؟ يا قوم التمسوا لأنفسكم دينا ، فإنكم – والله – ما أنتم على شيء ، فتفرقوا في البلدان يلتمسون دين إبراهيم .
فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية ، واتبع الكتب من أهلها ، حتى علم علماً من أهل الكتاب .
وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم ، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان مسلمة ، فلما قدمها تنصر ، وترك الإسلام حتى هلك نصرانياً .
وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر ، وحسنت منزلته عنده .
وأما زيد فوقف ، فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية ، وفارق قومه ، فاعتزل الأوثان ، واجتنب الميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان ، ونهى عن قتل الموءودة ، وقال أعبد رب إبراهيم ، وبدأ قومه بعيب ما هم عليه .
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : (( أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح ( واد غربي مكة ) قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي ، فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة ، فأبى أن يأكل منها ، ثم قال زيد : إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه ، وإن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ، ويقول : الشاة خلقها الله ، وأنزل لها من السماء ماء ، وأنبت لها من الأرض ، ثم تذبحونها على غير اسم الله ؟ إنكاراً لذلك وإعظاماً له )) (6) .
قال موسى بن عقبة حدثني سالم بن عبد الله – ولا أعلمه يحدث به إلا عن ابن عمر – (( إن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه ، فلقي عالماً من اليهود ، فسأله عن دينهم فقال : إني لعلي أن أدين دينكم ، فأخبرني ، فقال : لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله ، قال زيد : ما أفر إلا من غضب الله ، ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً ، وأنى أستطيعه ! فهل تدلني على غيره ؟ قال : ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً ، قال زيد : وما الحنيف ؟ قال : دين إبراهيم ، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ، ولا يعبد إلا الله .
فخرج زيد فلقي عالماً من النصارى ، فذكر مثله . فقال : لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله . قال : ما أفر إلا من لعنة الله ، ولا أحمل من لعنة الله ولا غضبه شيئاً ، وأنى أستطيع ، هل تدلني على غيره ؟ قال : ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً . قال : وما الحنيف ؟ قال دين إبراهيم ، لم يكون يهودياً ولا نصرانياً .
فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلام خرج ، فلما برز رفع يديه ، فقال : اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم )) (7) .
قال : وقال الليث : كتب إليّ هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت : (( رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائماً مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول : يا معشر قريش ، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري . وكان يحي الموءودة . ويقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته : لا تقتلها ، أنا أكفيك مؤونتها ، فيأخذها ، فإذا ترعرعت قال لأبيها : إن شئت دفعتها إليك ، وإن شئت كفيتك مؤونتها )) ( .
ولقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن زيد هذا فقال : ( يُحشر ذاك أمة وحده بيني وبين عيسى ابن مريم ) قال ابن كثير إسناده جيد حسن .
وعن عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( دخلت الجنة فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل دوحتين ) قال ابن كثير : وهذا إسناد جيد .
وبعد هذه الظلمة الشديدة أذن الله ببزوغ فجر الإسلام ، فاستنار الناس بنوره ، واهتدوا بهديه فله الحمد والمنة .
ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قُصْبَهُ في النار ، كان أول من سيب السوائب ) (1) ، وفي صحيح البخاري أيضاً عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً ، ورأيت عمراً يجر قُصْبَهُ ، وهو أول من سيب السوائب ) . (2)
فعمرو هذا غيّر دين العرب بدعوتهم لعبادة الأصنام ، وباستحداث بدع في دين الله تعالى ، أحلّ فيها وحرّم بهواه ، ومن ذلك ما ذكره الله في كتابه : ( ما جعل الله من بحيرةٍ ولا سائِبةٍ ولا وصيلةٍ ولا حامٍ ولكنَّ الَّذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ) [ المائدة : 103 ] . (3)
وتختلف الروايات في الكيفية التي نشر عمرو بها الأصنام في الجزيرة العربية ، فمن قائل إنّ عمراً كان له رئيٌ من الجن هو الذي دله على الأصنام التي كانت مدفونة منذ عهد نوح ، وكان قوم نوح يعبدونها ، فاستخرجها عمرو ، ووزعها في العرب ، وقيل : إنه جاء بالأصنام من بلاد الشام ، عندما رآهم يعبدونها ، فطلب منهم صنماً ، فأعطوه واحداً نصبه بمكة (4) .
والسبب في أن العرب تابعت عمرو بن لحي أنه كان ذا مكانة فيهم ، فقد كان سيد خزاعة في حال غلبتها على مكة وعلى البيت بعد أن نفت قبيلة جرهم من مكة ، وكانت العرب قد جعلته رباً ، لا يبتدع بدعة إلا اتخذوها شرعة ، لأنه كان يطعم الناس ويكسوهم في الموسم ، فربما نحر في الموسم عشرة آلاف بدنة ، وكسا عشرة آلاف حلة .
ويقال : إن عمراً هذا هو الذي دعا الناس إلى عبادة اللات ، وكان رجلاً يلت السويق للحاج بالطائف على صخرة هناك ، فلما مات زعم عمرو بن لحي أنه لم يمت ، وأنه دخل في الصخرة التي يلت عليها ، وأمرهم بعبادتها .ومما يذكر عنه أيضاً أنه هو الذي غير التلبية التي كانت تعلن التوحيد لله وحده ، فقد كانت التلبية من عهد إبراهيم عليه السلام ( لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك ) واستمر الحال حتى كان عمرو بن عامر ، فبينما هو يطوف بالكعبة يلبي تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه ، فقال : ( لبيك لا شريك لك ) ، فقال الشيخ : إلا شريكاً هو لك ، فأنكر هذا عمرو ، فقال : ما هذا ؟ فقال الشيخ : قل تملكه وما ملك ، فإنه لا بأس بهذا ، فقالها عمرو ، فدانت بها العرب .
بداية الانحراف :
ويذكر لنا ابن إسحاق كيف كانت بداية الانحراف عند العرب من نسل إسماعيل عليه السلام في عبادتهم الأحجار ، فقد كان (( أول أمرهم أنهم كانوا يعظمون الحرم ، فلا يرتحلون منه حتى كثروا وضاق بهم ، فأخذوا يرتحلون عنه طالبين السعة والفسح في البلاد ، فكان لا يظعن ظاعن منهم عن الحرم إلى غيره إلا حمل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً له ، فحيث ما نزلوا وضعوه ، فطافوا به كطوافهم بالكعبة ، ثم أدى بهم ذلك إلى عبادة هذه الأحجار ، ثم كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة )) (5) .
وانظر إلى ما صار إليه أمرهم وحالهم : عن أبي رجاء العطاردي قال : " كنا نعبد الحجر في الجاهلية ، فإذا وجدنا حجراً أحسن منه نلقي ذلك ونأخذه ، فإذا لم نجد حجراً جمعنا حثية من تراب ، ثم جئنا بغنم فحلبنا عليه ثم طفنا به " .
ومن عجائب أمر الجاهلية أن الرجل منهم كان إذا سافر حمل معه أربعة أحجار ، ثلاثة لقدره والرابع يعبده .
أصنام العرب :
واتخذوا الأصنام والأوثان ، قال هشام بن محمد السائب الكلبي : " وكان من أقدم أصنامهم (مناة) ، وكان منصوباً على ساحل البحر الأحمر من ناحية (المشلل) بقديد بين مكة والمدينة ، وكانت العرب جميعاً تعظمه ، وكانت الأوس والخزرج ومن ينزل المدينة ومكة وما قارب من المواضع يعظمونه ويذبحون له ، ويهدون له ، ولم يكن أحد أشد إعظاماً له من الأوس والخزرج ، وبلغ من تعظيم الأوس ومن جاورهم من عرب يثرب له أنهم كانوا يحجون ، فيقفون مع الناس المواقف كلها ، ولا يحلقون رؤوسهم ، فإذا نفروا أتوه فحلقوا عنده رؤوسهم ، وأقاموا عنده لا يرون لحجمهم تماماً إلا بذلك .
وكانت (مناة) لهذيل وخزاعة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً عام الفتح فهدمها ، ثم اتخذوا (اللات) بالطائف وهي أحدث من مناة ، وكانت صخرة مربعة ، وكانت سدنتها من ثقيف ، وكانوا قد بنوا عليها ، وكانت قريش وجميع العرب يعظمونها ، وبها كانت تسمى زيد اللات ، وتيم اللات ، وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم ، فم تزل كذلك حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة ابن شعبة ، وأبا سفيان بن حرب لما أسلمت ثقيف ، فهدماها وحرقاها بالنار .
غير أن ابن جرير يروي في تفسيره عن مجاهد في قوله تعالى : ( أَفَرَأَيْتُمُ الَّلات والعُزَّى ) [ النجم : 19 ] قال : كان اللات يلت السويق للحاج ، فمات فعكفوا على قبره ، وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس : كان يلتّ السويق للحاج . رواه البخاري بنحوه .
ثم اتخذوا (العزى) وهي أحدث من اللات ، اتخذها ظالم بن سعد بوادي نخلة فوق ذات عرق ، وبنوا عليها بيتاً ، فكانوا يسمعون منها الصوت ، قال الكلبي فيما يرويه عن ابن عباس قال : كانت للعزى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة .
فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد فقال : ائت بطن نخلة ، فإنك ستجد ثلاث سمرات ، فاعضد الأولى ، فأتاها فعضدها ، فلما جاء إليه قال : هل رأيت شيئاً ؟ قال : لا . قال : فاعضد الثانية ، فعضدها ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال : هل رأيت شيئاً ؟ قال لا ، قال : فاعضد الثالثة ، فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها واضعة يديها على عاتقها تضرب بأنيابها وخلفها سادنها ، فقال خالد :
كفرانك لا سبحانك ، إني رأيت الله قد أهانك .
ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حممة ، ثم عضد الشجرة ، وقتل السادن ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : ( تلك العزى ، ولا عزى بعدها للعرب ) . وكانت العزى لأهل مكة في موضع قريب من عرفات ، وكانت شجرة يذبحون عندها ويدعون .
وقال الكلبي في كتابه ( الأصنام ) : " وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها ، وأعظمها عندهم (هبل) ، وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على صورة الإنسان ، وكانوا إذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفراً أتوه ، فاستقسموا عنده بالقداح .
ومن أصنامهم إساف ونائلة ، ويروي بعض الرواة أن رجلاً وامرأة زنيا في البيت الحرام ، فمسخهما الله حجرين ، ووضعتهما قريش عند الكعبة ليتعظ بهما الناس ، فلما طال مكثهما وعبدت الأصنام عبدا معها .
ولما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنماً ، فجعل يطعن بقوسه في وجوهها وعيونها ويقول : ( جاء الحقُّ وزهق الباطل إنَّ الباطل كان زهوقاً ) [ الإسراء : 81 ] ، ( جاء الحقُّ وما يُبدئُ الباطل وما يُعيد ) [ سبأ:49] وهي تتساقط على رؤوسها ، ثم أمر بها فأخرجت من المسجد وحرقت . أخرجاه في الصحيحين عن ابن مسعود بنحوه ولم يذكرا " وهي تتساقط ... إلخ " وعندهما يطعنها بعود كان في يده .
وقد انتشرت عبادة الأصنام حتى إنه كان لكل دار في مكة صنم يعبده أهلها ، فإذا أراد أحدهم السفر فكان أول ما يصنع في منزله أن يتمسح به ، وإذا قدم من سفر كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به .
قال ابن إسحاق الكلبي : " وكان ( ذو الخلصة ) لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان ببلادهم من العرب ، وكان مَرْوَةً بيضاء منقوشاً عليها كهيئة التاج ، وكان له بيت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجرير بن عبد الله البجلي ألا تكفيني ذا الخلصة؟ ) فسار إليه بأحمس ، فقاتلته خثعم وباهلة ، فظفر بهم ، وهدم بيت ذي الخلصة وأضرم فيه النار " .
وفي البخاري ومسلم عن جرير بن عبد الله قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ألا تريحني من ذي الخَلصَةَ ) ، وكان بيتاً في خثعم يسمى الكعبة اليمانية ، فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس إلى ذي الخلصة ، وكانوا أصحاب خيل ، فقلت : يا رسول الله ، إني لا أثبت على الخيل ، فضرب بيده في صدري حتى رأيت أثر أصابعه في صدري وقال : ( اللهم ثبته واجعله هادياً مهدياً ) ، فانطلق إليها فكسرها .
والأصنام التي كانت منتشرة في الجاهلية أكثر من هذا الذي ذكرناه .
ظلمة دامسة عند البعثة :
ولم يكن قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم من بقايا النور السماوي الذي جاءت به الأنبياء إلا أضواء خافتة لا تكفي للهداية والاستقامة على المنهج الرباني ، لضياع ذلك المنهج واختلاطه بذلك الباطل الكثير ، وفي الحديث : ( إن الله نظر – قبيل البعثة – إلى أهل الأرض ، فمقتهم عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب ) .
وقد حفظت لنا النصوص التاريخية أن أربعة من عقلاء قريش اعتزلوا قومهم في أحد أعياد قريش عند وثن من الأوثان ، وهم ورقة بن نوفل ، وعبيد الله بن جحش ، وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى ، وزيد بن عمرو بن نفيل .
فقال بعضهم لبعض : تعلمون والله ما قومكم على شيء ، ولقد أخطؤوا دين أبيهم إبراهيم ، ما حجر نطيف به ، لا يسمع ولا يبصر ، ولا يضر ولا ينفع ؟ يا قوم التمسوا لأنفسكم دينا ، فإنكم – والله – ما أنتم على شيء ، فتفرقوا في البلدان يلتمسون دين إبراهيم .
فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية ، واتبع الكتب من أهلها ، حتى علم علماً من أهل الكتاب .
وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم ، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان مسلمة ، فلما قدمها تنصر ، وترك الإسلام حتى هلك نصرانياً .
وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر ، وحسنت منزلته عنده .
وأما زيد فوقف ، فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية ، وفارق قومه ، فاعتزل الأوثان ، واجتنب الميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان ، ونهى عن قتل الموءودة ، وقال أعبد رب إبراهيم ، وبدأ قومه بعيب ما هم عليه .
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : (( أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح ( واد غربي مكة ) قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي ، فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة ، فأبى أن يأكل منها ، ثم قال زيد : إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه ، وإن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ، ويقول : الشاة خلقها الله ، وأنزل لها من السماء ماء ، وأنبت لها من الأرض ، ثم تذبحونها على غير اسم الله ؟ إنكاراً لذلك وإعظاماً له )) (6) .
قال موسى بن عقبة حدثني سالم بن عبد الله – ولا أعلمه يحدث به إلا عن ابن عمر – (( إن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه ، فلقي عالماً من اليهود ، فسأله عن دينهم فقال : إني لعلي أن أدين دينكم ، فأخبرني ، فقال : لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله ، قال زيد : ما أفر إلا من غضب الله ، ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً ، وأنى أستطيعه ! فهل تدلني على غيره ؟ قال : ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً ، قال زيد : وما الحنيف ؟ قال : دين إبراهيم ، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ، ولا يعبد إلا الله .
فخرج زيد فلقي عالماً من النصارى ، فذكر مثله . فقال : لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله . قال : ما أفر إلا من لعنة الله ، ولا أحمل من لعنة الله ولا غضبه شيئاً ، وأنى أستطيع ، هل تدلني على غيره ؟ قال : ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً . قال : وما الحنيف ؟ قال دين إبراهيم ، لم يكون يهودياً ولا نصرانياً .
فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلام خرج ، فلما برز رفع يديه ، فقال : اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم )) (7) .
قال : وقال الليث : كتب إليّ هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت : (( رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائماً مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول : يا معشر قريش ، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري . وكان يحي الموءودة . ويقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته : لا تقتلها ، أنا أكفيك مؤونتها ، فيأخذها ، فإذا ترعرعت قال لأبيها : إن شئت دفعتها إليك ، وإن شئت كفيتك مؤونتها )) ( .
ولقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن زيد هذا فقال : ( يُحشر ذاك أمة وحده بيني وبين عيسى ابن مريم ) قال ابن كثير إسناده جيد حسن .
وعن عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( دخلت الجنة فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل دوحتين ) قال ابن كثير : وهذا إسناد جيد .
وبعد هذه الظلمة الشديدة أذن الله ببزوغ فجر الإسلام ، فاستنار الناس بنوره ، واهتدوا بهديه فله الحمد والمنة .